[بسم الله الرحمان الرحيم
الأوبئة الفتاكة
إن الاطلاع الواسع للعامل في الصحة البشرية وللمتخصصين ، ممرضين وأطباء.. ، ومعرفتهم بالظروف الاجتماعية والتاريخية والثقافية للأوبئة الفتاكة وللأمراض التي تتعرض العنصر البشري يجعل المرء بمنأى عن الأخطاء البسيطة التي يقع فيها أحيانا هؤلاء وقد يرجع هذا إلى أسباب عديدة منها رداءة تكوين الأطباء والممرضين ومختلف المتدخلين في مجال التواصل المهني وأنثروبولوجيا الاوبئة وتاريخها وسوسيولوجيا المعرفة وعلوم النفس المختلفة التي لها علاقة وطيدة بالصحة البشرية وبالعلوم الانسانية .
يرجع الافتقار الى المعرفة بانواع الامراض والاوبئة الفتاكة التي تحصد العديد من الارواح البشرية عبر التاريخ الاجتماعي للمجموعات الاثنية الى عدم اطلاع الفرق الطبية والصحية عن كثب عن البنى الثقافية والاجتماعية التي تحكم المواقف المربكة احيانا لنظريات الصحة السائدة بين السكان المعنيين. فالاكتفاء بالمعرفة " العلمية " للطب الصناعي وحده لا تكفي للاحاطة بهذه الاسباب
ان مجرد اختلال في الانظمة الايكولوجية والديموغرافية والثقافية والاقتصادية سيعرض السكان الى اختلال صحي لا محالة ، وبالتالي ستنبعث امراض عديدة التي ستجد البيئة المناسة للظهور او اعادة الظهور. فلم يعد النظام الصحي السائد كافيا لرصد الامراض وتشخيصها والتعرف على اسبابها ومسبباتها ، فمثلا لم يعد معتمدا في العديد من المناطق ذات بيئة مختلة او ذات عادة ثقافية متوارثة في انظمة التغذية ، لم يعد العلاج –حسب منظمة الصحة العالمية – علاجا فرديا بل للاصتئصال وجب تغيير نظام ايكولوجيا المنطقة المصابة او حتى تغيير عادة التغذية شيئا فشيئا حتى يتم التغلب على المرض..
ونظرا لطرق الاستقصاء الوبائي السريعة المعروفة بالمنهجية الاحصائية التي تتخذ عينات من المرضى في المجموعة السكانية المتضررة ، فانها غالبا ما تلتجأ الى علاج سهل وفعال عن طريق عقاقير فعالة لكنها باهضة الثمن ، واذا ما تم التصدي لذلك من قبل المنظمات المختصة في مكافحة المرض فانه سرعان مايعاود الظهور نظرا لغياب استراتيجية عامة في الاستئصال الكلي له.
واعتماد منهجية الاستقصاء الوبائي السائدة بدون ربطها بالظروف الاقتصادية والديموغرافية والثقافية والاجتماعية ، سيكون مجرد صورة جزئية لتشخيص المرض وبالتالي بات البحث عن اقتراح مقاربات في اشراك الناس والمجتمع باهمية الصحة من جانب الوضع الاجتماعي والتاريخ الثقافي لهم. وهذا هو ما يسمى بالمنهجية الانثروبولوجية في تشخيص الاوبئة والامراض الفتاكة. بمعنى آخر ، التوفيق بين تصورات الخبراء والمجتمع المعني .
لهذا أعدت دراسات لمعرفة كيفية و مستويات وعي الناس بصحتهم اليومية وممارستهم لها، انطلاقا من استخراج المعلومات المتعلقة بنظام الرموز المستخدمة لوصف المفاهيم والقيم في مجموعة بشرية معينة . الهدف من هذا هو إعداد رسائل لتوعية المرضى وذويهم ومدى تأثير ذلك على فهم القرويين .
فإذا اردنا مثلا فهم حالة من حالات الاوبئة المنتشرة في بلدان افريقية مثل البلهارسيا سنجد ان الطابع الاقتصادي وتعدد المجموعات البشرية المختلفة العرق والثقافات وبنية السكان والسكنى والملاجىء وطبيعة انشطتهم السوسو-اقتصادية واختلاف لغاتهم وانماط تواصلهم يجعل بعضهم في وضع مضطرب نفسيا واجتماعيا .وعند استقصاء المفاهيم حول المرض لدى هؤلاء السكان نجد مفاهيم من نوع ان البلهارسيا تتنقل بواسطة التبول في البحيرة المائية التي تتعفن ويضطر السكان من الشرب منها ، كما ان للاتصال الجنسي –في اعتقادهم – سبب في انتشار المرض الى جانب الامراض المعوية .
والحالة أن القذارة والنتن ورمي الازبال والاوساخ والتبول والتغوط نظرا لغياب المراحيض ، اسباب رئيسية في انتشار هذا الوباء الفتاك. وعلى الرغم من التشخيصات الحديثة للطب التي تعتمد الفحوصات المتنوعة ومنها موقع الالم ، فان تلك المجموعات الاثنية تستند الى معرفة تقليدية وتعتبر ان البلهارسيا ليس مرضا قاتلا ، واستعمال بعض الابخرة والترانيم كافية للشفاء.
وعند القيام مثلا بهذه الدراسة الثقافية للمرض ان صح التعبير يتمكن العامل بالصحة البشرية من فهم ادق لعمليات التواصل في اقناع الناس وتوعيتهم حسب اوضاعهم الاجتماعية والنفسية والثقافية ، ويستطيع اشراك الناس في استشفاء مرضاهم بداية من القضاء على الاختلال البيئي والاجتماعي وتحيد الرؤية الثقافية للمرض الفتاك فيما بين المجموعات الاثنية.
نفس الشيئ يمكن تطبيقه في مجال تنظيم الاسرة التي غالبا ما ترتكن للسائد الثقافي في المجتمعات البشرية .. كأن يعتبر الجنس طابو لا يمكن الحديث عنه (المجتمعات الاسلامية مثلا) وفي ثقافات اخرى قد يحصل العكس.. ان العادات والثقافات لها دور كبير في انتشار او عدم انتشار امراض معينة ، فقد بحصل ان تكثر امراض القلب بمنطقة اكثر سخونة او يتناول اهلها اطعمة بها الكثير من الكلريسطرول و التعرض للضغط ... وقد يحصل ان لسبب ثقافي محض ان تنمو امراض سرطانية لدى مجموعات دون اخرى او لدى فئات دون اخرى علاوة على الظروف السوسو-اقتصادية والمهنية والوراثية –الجينية كذلك.
خلاصة القول في هذه الورقة ، هو ان الطب الصناعي يبقى عاجزا في علاج العديد من الامراض التي تعصف بالعديد من الارواح التي قد يكون سببها فقط عدم فهم، بعمق شديد، للبنى الاجتماعية والنفسية للمرضى ، وقد يحصل أن يتوفى شخص ما على سرير المشفى سببه فقط قصور معرفة الاطباء للتواصل البديل والتكميلي مع المرضى .. . فلابد لحضور العلوم الانسانية بشتى فروعها المذكورة بداية من الانثروبولوجيا الطبية الى علوم النفس والاجتماع والطب البديل (طب الحمية والطب الغذائي والبيولوجي –النباتي) ، ضرورة ووجوب الطب المعاصر ان يحتوي هذه العلوم ويجعلها مناهج لتشخيص اغلبية الامراض المستعصية لحد الان رغم اسطورة التكنولوجية الطبية ال
متسارعة